Sunday, April 1, 2012

البابا شنودة الراحل الحاضر


محمد شكر

رحل عن الدنيا منذ أيام البابا شنودة الثالث – بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية عن عمر يناهز تسعة وثمانبن عاما.  رحل عن دنيانا الرجل الذى قال إن مصر ليست وطن نعيش فيه ولكنه وطن يعيش فينا. رحل الرجل الذى كان بصفاته الشخصية المتميزة جزءا ثمينا من نسيج المجتمع المصرى المتشابك - البطريرك الذى إختلف معه الكثيرون على بعض مواقفه لكنهم لم يختلفوا على نزاهته وأدبه وتواضعه.  رحل الرجل الذى كانت حكمته تنساب فى بلاغة تعبيره وحتى فى صمته.  رحل عن دنيانا البابا المصرى صاحب المواقف الوطنية المشرّفة.  فهو من تمسك بالوحدة الوطنية فى أحلك المواقف وهو من وقف ضد التطبيع مع العدو الصهيونى متحديا رأس الدولة - صاحب فكرة التطبيع.  رحل البابا وكانت مصر كلها فى وداعه بالأسى والدموع.  لكن رحيله لم يقطع حضوره المعنوى عن قلوب المصريين، بل على العكس فقد بسط أواصر التعارف ومد جسور التواصل بين مسلمى مصر وأقباطها بشكل غير مسبوق.

لا أستطيع - كمسلم - أن أتحدث عن البعد الروحانى لقيادة البابا شنودة، لكنى أستطيع - كمصرى - أن أتحدث عن البعد الوطنى فى شخصيته ومواقفه.  إن مصر ستظل تذكر لهذا البابا موقفه المشرف عندما إمتنع عن مصاحبة الرئيس السادات فى زيارته لإسرائيل عام 1977، ثم رفضه الموافقة على إتفاقية كامب ديفيد بعد محاولات السادات إنتزاعها من الكنيسة القبطية. وعاد بعد ذلك ليرفض تهويد القدس وإختيار إسرائيل لها كعاصمة أبدية، وأوصى بعدم حج الأقباط إلى القدس رغم محاولات الدولة لتفعيل التطبيع.  ونذر هو نفسه ألا يحج لمهد السيد المسيح طالما بقى تحت الإحتلال الإسرائيلى.  وكان البابا شنودة يردد أن القدس هى لب الصراع وأنه لايمكن حل الصراع مع إسرائيل ما لم تعد القدس إلى أصحابها.  وصرّح مرات بأنه يدعم الكفاح الفلسطينى المشروع فى سبيل تحرير فلسطين. 

وحديثا إنطلقت بعض الأصوات من دوائر أقباط المهجر تطالب بالتدخل الأجنبى (وبالتحديد من طرف أميركا أوالناتو أو الأمم المتحدة) بشكل عسكرى سافر أو بفرض عقوبات إقتصادية على مصر بحجة حماية أقباط مصر من إعتداءات المسلمين عليهم وخصوصا بعد أحداث قتل المتظاهرين الأقباط أمام مبنى التليفزيون بماسبيرو فى أكتوبر الماضى.  فماذا كان موقف البابا شنودة من هذا المطلب؟  قال البابا "إذا كان التدخل الأجنبى سيحمى الأقباط فليمت الأقباط وتحيا مصر".  هذا القول لا يصدر إلا عن قلب مفعم بحب الوطن ومؤيد بالإيمان بقضاء الله.  
لاقت هذه المواقف الوطنية تأييدا من معظم المصريين برغم تحفظ بعض الأقباط عليها بحجة أن المنصب البابوى هو منصب روحى بالأساس ولا يجب أن يكون له أبعادا سياسية.  لكن الحقيقة أن تلك المواقف يجب أن تؤخذ على أنها مواقف دينية لأنها بنيت على مبادئ العدل الإلهى وليست على حسابات سياسية أو إقتصادية.  وهذا ما جعل البابا رمزا دينيا بالمعنى الأخلاقى للدين، وإستحق بذلك لقب بابا العرب.

لكن صورة البابا فى نظر المسلمين فى مصر شابها كثير من السلبيات خصوصا فى بداية فترة بابويته فى السبعينيات لأسباب وردت بالتفصيل فى كتابات كثير من الكتّاب وشهود العيان (أقباطا ومسلمين).  كان من أهم تلك الأسباب الصدام الشخصى المستمر بين البابا شنودة والرئيس السادات على خلفية تنامى إستقطاب دينى ممقوت أحل بمصر لأول مرة فى تاريخها.  فى تلك الفترة أطلقت الدولة العنان لجماعات متطرفة إدعت هويتها الإسلامية لكى تضرب بها التيارات اليسارية.  كان ذلك بمباركة رأس الدولة الذى سمى نفسه بالـ "الرئيس المؤمن" ليصبح من يخالفه فى السياسة مخالفا للإيمان ذاته.

إنطلقت هذه الجماعات بإسم الدعوة للإسلام تحرض على كراهية الأقباط بل وحتى المسلمين المعارضين لهم.  وبعد سنوات قليلة إنقلب السحر على الساحر عندما إختطفت إحدى هذه الجماعات (التكفير والهجرة) وزير الأوقاف المصرى الشيخ محمد حسين الذهبى وقتلته بدم بارد عام 1977.  لكن العنف ضد الأقباط كان قد تفجر لأول مرة عام 1972 عندما هاجمت إحدى هذه الجماعات ما إعتقدوا بأنها كنيسة غير مرخصة بحى الخانكة فى ضواحى القاهرة وحرقوها كما حرقوا منازل ومتاجر بعض الأقباط الذبن أبدوا مقاومة هناك.

فى تلك السنوات العجاف فى تاريخ الكنيسة القبطية أظهر البابا شنودة كثيرا من التحدى للرئيس السادات.  فوقف مثلا متحديا مشروع قانون الردة الذى إقترحته الحكومة عام 1977 والذى كان يقضى - فى حال تفعيله - بإعتبار كل من رجع عن دين الإسلام مرتدا ويعاقب بالإعدام. فإذا أسلم قبطيا مثلا ثم قرر الإرتداد لدينه الأصلى فسيعدم شنقا طبقا لذلك القانون الذى لم ير النور بسبب معارضة البابا والكنيسة له.

لكن الذى أساء فى الحقيقة لصورة البابا عند المسلمين هى إشاعة إنتشرت على مدى فترة فى منتصف السبعينيات ثم أكدها السادات فى إحدى خطبه عندما إتهم البابا بأنه يتبنى مخططا لإنشاء دولة للأقباط فى مدينة أسيوط.

وبدلا من أن يأخذ هذا الإتهام الخطير مجراه فى التحقيق والحوار الوطنى الجاد تعاملت جموع المصريين المسلمين معه كأنه حقيقة - لأنها أولا صدرت عن رأس الدولة (وقد كان رأى السلطان فى ذلك الوقت هو سلطان الآراء – وهو ما إنتفى بعد ثورة الشعب) وثانيا لأن هناك شغف عام لدى غالبية المصريين بنظرية المؤامرة: المصريون يحبون حواديت المؤامرات ويبجلون شخصية المنقذ.  فهاهو إذن رئيسهم السادات يحكى لهم حدوتة مؤامرة البابا ويبرز نفسه على أنه المنقذ الشاطر حسن.  كان هناك تقبل للحدوتة، وكان هذا الإتهام بالتالى - والذى لم تقدم أدلة دامغة على صحته حتى اليوم بعد قرابة أربعين عاما -  هو السبب الرئيسى فى تصاعد حدة التوتر والهواجس فى العلاقة بين المسلمين والأقباط فى مصر منذ ذلك الوقت. 

ومع تصاعد وتيرة تلك الهواجس، مصحوبة بفتاوى تكفير الأقباط وإستحلال أموالهم من جانب جماعات تمحكت بالإسلام، إنتاب الأقباط حالة من الفزع ضاعفت شعورهم بالتهميش الذى عانوا منه لعقود. وبدأ منذ أواخر السبعينيات تصاعدا حادا لما أصبح يسمى بالمسألة القبطية فى مصر. ولأن الدولة لم توفر مظلة المواطنة وغطاء الحماية للأقباط ، بل على العكس فهى التى سحبت عنهم هذا الغطاء، ولأن منظمات المجتمع المدنى التى كان من الممكن أيضا أن تعالج هذا الأمر باتت عقيمة تحت قبضة الدولة، ولأن جموع المسلمين الذين تعايشوا بالود مع إخوانهم الأقباط لميكن صوتهم ليعلو فوق صوت ولى الأمر، لم يجد الأقباط حينذاك ملاذا يتحصنون به ويتبنى مطالبهم سوى الكنيسة.

وهنا كان على البابا شنودة أن يوازن بين طرفى معادلة دقيقة: إحداهما حماية أرواح وممتلكات شعبه القبطى المهدد والأخرى حماية الوحدة الوطنية لشعبه المصرى العريض.  لو كانت هذه معادلة رياضية لكان أمرها سهلا لكنها كانت بالطبع معادلة إنسانية تشق على العقل والنفس. نجح البابا أحيانا ولم يدركه كامل النجاح أحيانا أخرى لكنه أظهر من الحكمة ما إستحق به إحترام الكثيرين وأكد دائما على معانى العلاقات الأخوية التاريخية بين مسلمى مصر وأقباطها.     

لكن معاناة البابا شنودة من حكم السادات بلغت ذروتها حينما وقف الأخير أمام البرلمان فى سبتمبر 1981 ليعلن قرار عزل البابا من منصبه وتحديد إقامته بدير الأنبا بيشوى بوادى النطرون (وهو نفس الدير الذى تم فيه دفن جثمان البابا بعد وفاته).  وقد كان أحد أسباب هذا القرار المتهور – والذى يمكن فقط تخمينه دون إثبات -  هو عقاب البابا على مواقفه الوطنية تجاه معاهدة كامب ديفيد والتطبيع مع إسرائيل.  لقد تبنى البابا هذا الموقف الوطنى النبيل فى الوقت الذى تسابق فيه الكثيرون - ومنهم قيادات دينية إسلامية - لتأييد موقف الرئيس وحصد المنافع.

لقد ألقت وفاة البابا شنودة بظلها الكثيف على ربوع مصر لكنها فتحت آفاقا للتلاقى بين مسلميها وأقباطها.  فقد توافد عشرات الآلاف من المسلمين على الكنائس لعزاء الأقباط، ومنهم الآلاف الذين دخلوا الكنيسة لأول مرة.  وإستضافت قنوات فضائية العديد من الأقباط ليتحدثوا عن معاناتهم ومخاوفهم وإستمعت إليهم جموع من المسلمين لأول مرة.  هذه ظاهرة إيجابية تأخرت كثيرا لكن الحمد لله على بواكير حدوثها أخيرا، فهذا التواصل هو السبيل الوحيد لإعادة اللحمة بين أبناء الشعب الواحد وتبديد الهواجس التى نبنى عليها أحيانا أوهاما تفسد حياتنا.

وإننى كمسلم أقدّر مخاوف الأقباط بعد رحيل البابا لأن الكثير منهم كان يعتبره مظلة الحماية، والضمان لعدم تعرضهم للإضطهاد والتمييز. وقد تضاعفت هذه المخاوف لديهم مع سيطرة الأحزاب الإسلامية على المشهد السياسى فى مصر.  لكن الضمان الحقيقى لسلام المجتمع ككل هو وعى جموع المسلمين بأصول عقيدتهم السمحة ومبادئها التى تحفزهم على أسبقية العدل حتى على أداء الشعائر، لأن العدل - كما جاء فى القرآن - هو أقرب للتقوى.

لقد أعطى رسول الإسلام الأمان للنصارى فيما يعرف بوثيقة "العهدة النبوية"، والمحفوظ منها نسخة فى دير سانت كاترين بجنوب سيناء (ويقال أنه أقدم دير فى العالم).  تقول هذه الوثيقة "لا يغیر أسقف من أسقفیته ولا راھب من رھبانیته ولا حبیس من صومعته ولا سائح من سیاحته، ولا يھدم بیت من بیوت كنائسھم وبیَعِھِم، ولا يدخل شيء من بناء كنائسھم في بناء مسجد ولا في منازل المسلمین. فمن فعل شیئاً من ذلك فقد نكث عھد لله وخالف رسوله". 

لقد تأدب البابا شنودة بخلق الدين فكان بذلك خير مثال لتعاليم السيد المسيح عليه السلام.  رحم الله االبابا شنودة، الرجل الذى حمل مصر فى قلبه، فحملته مصر فى وداعه.  ندعو الله أن يثيبه على حُسْن ما قدمه لمصر وأن يديم علينا من أمثاله نماذجا لعقول مصر المستنيرة.

محمد شكر
تورونتو – مارس 2012

No comments:

Post a Comment